لشخصية العلمية في القرويين
ولقد كانت الشخصية العلمية المغربية بارزة في القرويين في العصر الإدريسي، كما كان العلماء الذين يدرسون بالمغرب يرحلون إلى المشرق ليعطوا وليأخذوا، كما كان المذهب الفقهي وهو المذهب الاجتماعي في البلاد، وقد تبلور فيما كتبه أعلامه الذين احتفظوا بالأعراف والعوائد المكونة لشخصية البلاد فـي كتـب النوازل والأحكـام، وفـي كتـاب القاضـي عيـاض "أزهار الرياض" ما يدل على أن مدرسة فاس الفقهية كان لها أسلوب خاص في تحليل المدونة على طريقة خاصة تعتمد على المناقشات اللفظية وضبط الروايات وتصحيحها. وشاهد العصر الإدريسي ازدهاراً أدبياً كبيراً، وكان إدريس الثاني من شعراء عصره، ويذكر ابن الأبار آثاراً أدبية للقاسم بن إدريس، كما يذكر البكري قصائد لشعراء برابرة طوعوا اللغة العربية لتعابيرهم الشعرية. وفي كتاب "المسالك والممالك" قصائد للنكوري وسعيد بن هشام المصمودي وبكر بن حماد وغيرهم.
والواقع أن المذهب المالكي انتشر في المغرب كله، وفي حوض البحر المتوسط ووسط إفريقيا، نظراً لأن الفقهاء من الحجاج حملوه إلى المغرب عن طريق زيارتهم للحجاز، وكان الإمام يحيى الليثي من تلامذة الإمام مالك. وساعدت دواعي السياسة على انتشار مذهب مالك، وأهمها موقف الإمام مالك من بيعة العلويين، ومنها تردد المغاربة على مكة والمدينة معقل المذهب المالكي، وأيضاً لمرونة المذهب الأصولية المقرة للمصالح المرسلة، ولصلابته في الأحوال الشخصية... وقد ركز الأدارسة هذا المذهب وعززوه في المغرب بتوليتهم لتلميذ مالك وسفيان الثوري، محمد بن سعيد القيسي المالكي، كما ركزه في الأندلس يحيى الليثي حين ولي القضاء بها.
واستمر عصر الأدارسة نحو قرنين تقريباً، ولم تستقر البلاد أثناءه لعدم تمركز الحكومة مع اتساع رقعتها، مما أحدث تضعضعاً اقتصادياً... وكانت حدود الدولة تمتد حيناً إلى بلاد السنغال، وتتقلص أحياناً في قلعة حجر النسر ونواحي البصرة وطنجة... علاوة على الفتن المتوالية التي يوقدها أعداء الدولة من البرغواطيين والعبيديين والخوارج والأمويين والأندلسيين. ولهذا عانت دولة المولى إدريس الثاني أزمات مالية، ومع ذلك لم ترهق السكان بنفقات غير شرعية، واكتفت بالنصيب الشرعي، وعمل اليهود على إضعاف الخزينة بأساليبهم لأنهم كانوا يؤيدون الخلافة في بغداد ويعملون على تشويه سمعة الأدارسة... وقد طبع المولى إدريس عملة شرعية ضربت في مدينة فاس، تحتفظ باريس بقطعة منها في قسم المسكوكات بمعهد الآثار.